المؤقّت في الإقامة | نصوص

باريس - فرنسا

 

في فرنسا تعلّمت جزيرة جربة أن تحبّني أكثر. وفي فرنسا أدركتُ أنّ قلبي مدفون هناك في جزيرة مجبولة من النخيل والماء.

في العشرين من آب سنة ستّ عشرة وألفين، حطّت قامتي القصيرة لأوّل مرّة في مطار «أورلي» الفرنسيّ. في العشرين من آب سنة ستّ عشرة وألفين، ركبت أوّل مرّة الطائرة الّتي كنت أراها نجمة بعيدة على عتبة بيتنا في تونس. في العشرين من آب من ذات السنة، فطمتني تونس كما تُبعد غزالة وليدها بعنقها الطويل عن حصّتها من العشب الأخضر.

لقد صرت بعد آب ذاك رقمًا من طابور الإقامات المؤقّتة الّتي تهديها فرنسا إلى ’المهاجرين‘ الجدد الوافدين على ترابها: بطاقة ورديّة صغيرة عليها صورتي المهاجرة المغبّشة بالحبر الأسود، وتاريخ ميلادي، ولون بصمتي على قفا البطاقة، وكلمة صغيرة عظيمة الشأن في سيرورتي الباريسيّة: بطاقة إقامة مؤقّتة يُسمح بموجبها العمل بصفة مؤقّتة. ولعلّي أخفّف حدّة المعنى الأصليّ للنظير الفرنسيّ؛ إذ أستعمل هذه الترجمة – الحال الملتصقة بالعمل لأنّهم لا يجدون حرجًا في كتابة "العمل بصفة صوريّة"، ترجمةً حرفيّة للمقابل الإفرنجيّ! ولا يخفى أنّني وقفت أمامها طويلًا بعد ذلك. أنا الخارجة من صناديق النحو وتقطيع العروض كما حبّة البصل ودروس الدلالة والاشتقاق بين تشومسكي وسيبويه، ودرجات الخطاب الموسومة في علم اللسانيّات - وقفت أقول: قاومت الاستعمار فشرّدني وطني!

 

ستّ سنوات في المؤقّت 

مات مظفّر النوّاب، وما زلت في فرنسا بإقامة مؤقّتة وتصريح عمل صوريّ ستّ سنوات. وبعد ذلك، كلّ شيء مؤقّت: التأمين الصحّيّ مؤقّت، بطاقة التنقّل وسط ’جزيرة فرنسا‘، كما يحلو للتقسيم الفرنسيّ لأسعار المواصلات التنصيف، المساعدة المخصّصة لإيجار البيت، الاشتراك السنويّ في بعض المكتبات، عقود العمل الصغيرة الّتي تحترم ’صوريّة‘ الساعات المسموح بها العمل، والتسجيل الجامعيّ. فلا يحقّ - على سبيل المثال المضحك لا الحصر القاتل - لمهاجر مثلي أن يتمارض، أعني أن يمرض في الفترة الّتي يوثّب فيها أوراقه لتجديد الإقامة؛ ذلك أنّ التأمين الصحّيّ الّذي دفعت أقساطه في وقتهِ لن يجيز لك المرض بشكل طبيعيّ؛ كأن يهن العظم منك ولمّا تنل بعدُ الورقة المؤقّتة الّتي تدلّ على قبول دائرة الشرطة تجديد إقامتك المؤقّتة. إنّك في فرنسا وفي سنواتك الأولى من رحلة هجرتك الفتيّة مجبر على المرض في أيّام معدودة لا تشملها أيّام الدراسة والعطل الرسميّة، فرصتك الوحيدة للعمل بكثافة وجني بعض المال، والعطل الصيفيّة، الّتي تبصر فيها باريس في آخر يومك عاهرة تضحك من حاجتك إلى "الفلس الأبيض لليوم الأسود"، على مرأًى من عازف الساكسفون الّذي يستجدي هو الآخر بعض السنتيمات الفرنسيّة البالية، وهو يذكّي نزعة الحنين عند عجوز باريسيّة تقف عند جسر السين، وترفع غرّتها إلى الوراء قليلًا على وقع نغم إديت بياف المنبعث "لا، لست نادمة على شيء".

عزيزتي إديت بياف، أنا ندمت وأندم كلّما اقترب موعدي مع تجديد الإقامة في دائرة الشرطة، حتّى أنّني انتبذت بالتقادم مكانًا قصيًّا للسكن، لا يغنيني من عنصريّة الفرنسيّين الأقحاح الّذين يرون فيّ صورة المستوطن الّذي أراه في باب العمود. بيد أنّه يغنيني من خطر سوء المعاملة، يوم دفع الملفّ المؤقّت لتجديد مؤقّت لبطاقة مؤقّتة لا تتجاوز صلاحيّتها السنة.

لا يستبيحك سيل التذكّر المنهمل الآن عند هذا الحدّ، بينما تطقطق فكرة المؤقّت أصابع يمناك الخمسة قبل أن تسري القشعريرة في إبهام اليسرى حيث يكتمل النصاب لهذه السنة: ستّ سنوات. تتذكّر أنّك حملت، وحميت، بذات اليدين وذات الأصابع، أوّل ملفّ تجديد إقامة تحت ثلج شهر ديسمبر في تلك السنة البعيدة نسبيًّا الآن. كان الموعد في تمام التاسعة صباحًا، غير أنّ الخبر سرى سريعًا في هشيم الثلج البارد الديسمبريّ، ففهمت - وهذه نقطة أخرى، ففي باريس عليك أن تفهم المنظومة وأنت تمشي دون توقّف أو أنت تبكي دون توقّف - أنّه يستوجب عليك محاكاة طوابير اللاجئين الطويلة الّتي كنت في تونس تراها من وراء حجاب التلفزيون، يستميلها في مخيّلتك حاتم عليّ بصورتهِ البارعة خلف الكاميرا - شتّان بين الصوريّة والصورة! – كان المطر يعجن الثلج في ذلك الصباح الّذي قبلتُ فيه بموجب صفة المؤقّت الّتي طبعت عليّ، كما تطبع علامة الصحّة على الخرفان، أن أغادر سريري المؤقّت بدفئه المؤقّت؛ لأقف منذ الخامسة صباحًا على الصراط. لم يكن مستقيمًا تمامًا، غير أنّني أدركت أنّ موعد التاسعة المسجّل على الورقةِ لا معنى له في بلاد الرجل الأبيض إذا لم تسابق إلى الدفاع عن مشروعيّته وحدك في الحرّ وفي القرّ.

 

في الطابور

أمامك في الطابور، أعني على الصراط، جيش الّذين ماتوا مثلك وقاموا ملبّين لنداء المؤقّت. وجوه قمطرير من البرد والغربة، حتّى كأنّهما صنوان من مشتقّ واحد ينافر الحروف بينها، ويُدفئ المعنى في العيون: المؤقّت. تتضامن تلك الطوابير من جنسيّات وأعراق مختلفة. تلتصق الأجساد آليًّا كلّما فشلت السماء في وقف إسهالها على رؤوسنا. ومن معاني التنافر الّتي تنقّيها - وأنت تنتظر أن ينتهي الانتظار الطويل - أنّ محمولًا لغويًّا مؤرّقًا مثل ’المؤقّت‘ ينحدر من سلالة محمول آخر هو ’الوقت‘. لكنّ العاملين على مدّ هذا البهاء المؤقّت لا يحترمون الوقت الّذي ختموه على ظهر موعدك. ينبلج الصبح قليلًا عندما يصبح لون الثلج أبيض في عينيك، وعندما يجرح قزحيّتك ضوء دائرة الشرطة وقد أشعلت نورها، ولم تبعث النور في بابها. بخفر تنظر صوبهم فتبصر بخار القهوة الساخنةِ يعكس على البلّور، الّذي يجيز لك بسخاء التأمّل في جماليّة هذه السخرية. تجترح معنى التجلّد من طرفة وأنت العبد، فيخيَّل إليك أنّ البخار انبعث كلمة واحدة أفقيّة التكوين، بعربيّة سليمة، على ظهر البلّور، بحروف مقلوبة تسمح للطائرة الّتي أنزلتك في محطّة الهجرة من أميالها البعيدة أن تقرأ: الصبر.

والصبر هنا في فرنسا... من المراهم النادرة الّتي لا يجود التأمين الصحّيّ بها دائمًا؛ إذ يكتفي ببديلين مشاعين أفصح عنهما الشاعر في زمن آخر؛ هما ’المهدّئ والنعاس‘. ما هو جمع الجمع للترياق في اللسان الإفرنجيّ؟ حفنة من المهدّئات المضادّة للاكتئاب؟ نعم، حين تسخّر اللغة أدواتها في خدمة المنظومة المتآمرة على معاني الجمهوريّة من عدالة وأخوّة وتضامن!

يصل الموعد المنتظر... تشير ساعتك اليدويّة إلى العاشرة، وأصابعك المجمّدة إلى سنة هجريّة أولى. تدلف الدائرة ليستقبلك في بهوها الفسيح - ليست جنّات الخلد على كلّ - عامل نصف نائم نصف مكتئب يطعّم فرنسيّته بالنعاس وموسيقى أصوله الآفلة قبل أن يحدجك بنظرة لا تريد أن تفهمها تمامًا، ويرمي بين أصابعك الميّتة رقمًا تنتظر به طابورًا آخر في الدفء واقفًا.

هنا تحاول أن تتماسك، فحتّى السجناء يجلسون قليلًا بين جولة وأخرى، لا يسمح لي شعار الجمهوريّة الّتي أطعمتني مؤقّتًا من جوع، وآوتني مؤقّتًا من خوف دائم من فكرة العراء الّتي تبيحها باريس في مشهديّة البشر الساكني شوارعها، أن ألفظه حفاظًا على سلامة الشعار من صلف مهاجر ناكر لجميل الثلج، والانتظار الدائم لبطاقة مؤقّتة. أتماسك وأعترف أنّه غالبتني في السنة الأولى في طوابير مختلفة دمعة. كان طرفة بن العبد يلكزني كلّ مرّة "لا تهلك أسًى، وتجلّدِ". وحين أتذكّر طرفة أتذكّر أرض السواد الّتي رمتني إلى السواد الأعظم في بلاد الرجل الأبيض، وحين أتذكّر طرفة أرمق ذات النافدة الّتي كنت أرى منها العالم داخل الدائرة دافئًا، فصرت داخلها أستشعر دفء البرد خارجًا. أبحث عن بقايا البخار المتصاعد من جبيني ومن الصبر. سال البخار على البلّور، ولمّا يسل الوقت بعد.

تُجلسني أحلامي الكبيرة الّتي أمسكت يدي، تبعث فيها بعض الصبر وبعض الدفء. أتأمّل سريعًا العلاقة بين ’بعض‘ و’بضع‘. أقول إنّ اللغة العربيّة تسحرني دائمًا لا طرفة فقط، فلماذا أحتمي بمؤقّت نظيرتها الإفرنجيّة وأنا من سلالة تنام ملء جفونها عن شواردها؟

ليس مهمًّا أن تشير ساعتك إلى العاشرة صباحًا. ليست مهمّة الدائرة أن تعطيك ورقة تبرّر تأخّرك أو غيابك عن العمل، والحال أنّك مشويّ تحت الثلج منذ الخامسة صباحًا. ليست حياتك شأنًا داخليًّا لمانحي الإقامة المؤقّتة.

يقترب أفق انتظارك فتنتبه إلى أنّ القاعة مقسّمة حسب نوع القطيع: اللاجئون/ طالبو الإقامة العاديّة/ طالبو إقامة مؤقّتة/ لمّ الشمل، وما إلى ذلك.

 

على طريقتي أنا

عليّ هنا أن أقف عند تفصيل آخر ضروريّ مثل الكثافة في التشبيه: كلّما اقترب العدّ من التنازل تسارعت دقّات قلبك؛ إذ تحاول أن تتفرّس في وجوه العملةِ لتستجلي طريقة تعاملهم مع المؤقّتين مثلك، وحين تحطّ نظرتك على عاملة شمطاء تدعو السماء في سرّك ألّا تكون طالع سوء لك اليوم!

غير أنّ السماء الّتي لم ترحمك خارجًا لن ترحمك داخل هذا القنّ الّذي يوزّع العبوس والإقامات المؤقّتة؛ فذات السيّدة الّتي استوحشتُ نظرتها وقعت نظرتها على نظرتي على حصّتي من المؤقّت. لم يشفع لي أنّني عبد - من سلالة طرفة دائمًا - مفرط في الترتيب، وأنّني أحسب كلّ كبيرة في الغيب، ولا أؤمن بقراءة الكفّ؛ إذ أرتّب كلّ أوراقي تمامًا حسب نظام إدراجها على موقعهم، قبل أن أشدّ عضدها بتلٍّ صغير يفلح الفرنسيّون في طيّه، كما أفلحوا من قبل في طيّ ظهورنا، وزخرفته بألوان تبعث على الحياة وتخفي سيميائيّة الصدأ. إنّهم بارعون في حجب الحقيقة دائمًا! وأفرد ملفًّا آخر لما قد تطلبه النزوات من أوراق إضافيّة يثيرها نظامي المبالغ فيه أحيانًا، أشدّها بتلٍّ ملتوٍ آخر بلون آخر. لم تشفع لي الألوان، ولم يرق لها النظام، ولم تشفع رائحة الشواء المنبعثة من لحمي المصهود تحت الثلج. أذكر أنّها قالت لي ببساطة بعد أن تكهّنت بأنّني سأحتجّ على معاملتها أمام ملفّ مكتمل العدد والرتب: "عندي ترتيبي الخاصّ للأوراق، فإذا لم يرق لك ذلك أعيدك هنا بعد ستّة أشهر أخرى!". بلعت أنفتي عميقًا في جبّ اسمه الصبر مرّة أخرى، خلته مؤقّتًا لكنّه المؤقّت الوحيد الّذي بات دائمًا.

لقد هذت مخيّلتي، وحفرت في جور ذلك الثلج البعيد اليوم؛ لأنّ بياض هذه الورقة وحده من يسمح لها أن تتجشّأ في ذلك الجبّ. أريد أن أقول من كلّ ما قلت إنّني، منذ ذلك التاريخ، اخترت مدينة عدد سكّانها العرب والأفارقة قليل مثل أصابع اليد، بعد أن قرأت عن انضباط دائرة شرطتها النسبيّ للمواعيد، ونسبيًّا بشكل أقلّ لمعاملة البشر المختلفين أصحاب البشرة المختلفة. نعم، أقف في الطابور تحت عنّاب آب ورياح كانون الثاني السموم، لكنّني غالبًا أنهي مهمّتي في الوقت المكويّ على ظهري.

اليوم، تمرّ ستّ سنوات على تاريخ ذلك البكاء الطويل الّذي نحبته في الطائرة، حتّى صرت موضوع اهتمام كلّ المسافرين. حملت من كلّ تونس معي مشمومًا (لفافة ياسمين يحلو للتونسيّين تسميتها المشموم)، وصل منهكًا مثلي إلى باريس من فرط ما بكت عنّي رائحته في الطائرة، حتّى عصرت كلّ رحيقها وريقي. اليوم، تمرّ ستّ سنوات على بدء الهبوط الاضطراريّ على التراب الفرنسيّ. اليوم، أمسى الاضطراريّ حتميّة لأنّني اجترحت من قسوة المنفى البارد طعمًا مختلفًا لحياة صعبة، لكنّ سيرورتها تستمرّ في المؤقّت ولا تموت. ستّ، عدد بهالة المقدّس انتظم فيه الكون وفق خرافة الأفيون، ولم تنتظم على امتداده حياة فرد يدبّ حافيًا ولا يُرى، مثل النملة. ستّ سنوات خسرت فيها كثيرًا من الشعر (بفتح الشين)، وخسرت فيها وقتًا كثيرًا للاستماع إلى الشعر (بكسرها هذه المرّة)، وخسرت فيها صوت إسوارة جدّتي الّتي تدقّ مثل المنبّه في كبد اليوم، وخسرت فيها رائحة الصباح المبلّل بالندى، مثل امرأة تغتسل بالياسمين والشبق في حديقة بيتنا في تونس، وخسرت فيها ساعات طويلة من النوم. وكدت أخسر قدرتي على الرفع من فرط الكسر الّذي يحمّر تراب ركبتَي؛ عقابًا على الصمود والعناد.

تصطفّ النواسخ صفًّا صفًّا ليثغو الحرفيّ منها وينعب الفعليّ. أمّا طريقة رسم الهمزة فدرس أخاف أن أنساه، مثلما أخاف أن تخونني كياسة آداب الأكل (أعترف أنّني أرتعب من دعوة رسميّة على العشاء)، لقد اعتدت أن أفصّل القول في تأويل نصّ أدبيّ بالمسطرة وقلم الرصاص، والتفريق بين الجملة إعرابيًّا ومعناها دلاليًّا، لكنّني لم أعتد يومًا فصل هيكل سمكة عن شوكها الفقريّ بفرشاة وسكّين.

 

عن غربة خاسرة

فماذا ربحت منّي الإقامة والغربة؟

رسالة ماجستير عن البحر والأدب والحبر؟ أو بطاقة كاتب أنيقة تطيّع قدرتي على احتمال ما تبقّى لي من صيرورة المؤقّت الضروريّة قبل التقاعد؟ أو رسالة دكتوراة تأخّر فصل الخريف في نقل بشارتها؟ أو مشروع ترجمة مفتوح مثل علبة مربّى متروكة تثير لعاب الطفل والذباب؟ أو تحسّنًا ملحوظًا في الدربة على العدّ؛ إذ أحسب اليوم عدد الشيب في رأسي وقد فارقت تونس باكيًا؟ أو مدينة اسمها باريس تفتح ذراعيها بساطًا من الريح لجيش المثقّفين الّذين يمرّون عليها، يتّصلون ويسألون: أين وصلتِ؟

قال لي مارسيل خليفة قبل أسابيع ونحن نحدّد موعد اللقاء: كيف لو صرتِ صاحبة مسؤوليّات؟ عزيزي أبا رامي: وهل بعد هذا مسؤوليّات؟  

وماذا ربح المؤقّت من إقامتي؟ قدرة على التوليف بين العمل الصحافيّ والعمل الجامعيّ؟ أعترف بأنّ الوقوف وراء مكتب أمام الطلبة شعور مغرٍ أكثر ومخيف في آن. وحنينًا جارفًا إلى جزيرتي جربة. اغتربت عنها مرّتين حين نشأت في تونس، وهاجرت إلى فرنسا. اليوم، أعزّي نفسي بكلّ الموروث الموسيقيّ الفلكلوريّ، المتصاعد من جرّة الفخّار النائمة على شاطئ الجزيرة.

لقد منحتني الإقامة المؤقّتة شعورًا بتجسّد فلسفة ميشال فوكو حول اللامكان والفضاء؛ فأنا اليوم أكتب بين مسافة قطارين ضروريّين مرّة كلّ أسبوع، بين باريس وليون، وأنام هناك في اللامكانِ على فضاء مؤقّت اسمه الكرسيّ، لا أتبيّن عليه الرشد من الغيّ. شعور يشي بأنّ اللحظة الآنيّة - أقصد المؤقّتة - لم تنتهِ، وربّما سيحلف الزمخشريّ ألف يمين معرب لئلّا تفعل. بين محطّات باريس وليون وبروكسل، أكتب الرسائل الإلكترونيّة المهمّة إرضاء لطغمة البيروقراطيّة الفرنسيّة. وحده غاستون باشلار من يضحك من صورة الرحلة والراحلة في قصيدتنا النموذجيّة؛ إذ يؤثر صورة لسقف البيت أو قبوه على رصد السراب في جسد الطلل العربيّ الأصيل.

 أمّا أنا فأراوح مؤقّتي الدائم بين ما يحبّ فوكو أن يسمّيه المكان المغاير والمكان المثاليّ. فمثلًا، أسافر إلى ليون في الجنوب الفرنسيّ لأقدّم أوّل درس جامعيّ لي هناك، فأرى أمامي في بيت الأصدقاء لوحة لراقصة الباليه. ألم تشبّهني أستاذة الأدب الحديث مرّة في تونس، وهي تعيد إليّ ورقة الامتحان، بأنّني راقصة باليه؟ كم امتحانًا سأمشي قبل أن أجلس خارج المكان المؤقّت ولو في فضاء ثابت؟ كم مرّة سيخضّني حليب الشفوي قبل أن يدقّني العروض في خيمة التدوين عنصرًا قارًّا؟ أستعيد صورة فوكو عن المرآة - ومن عجائب العربيّة أنّ الفارق بين المرآة والمرأة تلكّؤ صغير في رسم الهمزةِـ قال: "إنّ المرآة على أيّ حال مكان مثاليّ لأنّها مكان من غير مكان. في المرآة أرى نفسي حيث لا أوجد في فضاء غير حقيقيّ (...) أنا هناك حيث لا أوجدُ، نوع من الظلّ يمنحني إمكانًا للظهور الخاصّ بي (...) فانطلاقًا من المرآة أكتشف غيابي في الموضع الّذي أنا فيه".

من المرادفات القريبة من ’أقام‘، حيث تقيم الإقامة حرّة من الشعور بالذنب: مكث/ بقي/ ظلّ/ سكن، لكنّه مؤقّت... كلّه مثلي مؤقّت!

 


 

إشراق كرونة

 

 

 

كاتبة تونسيّة، باحثة وطالبة دكتوراه، وأستاذة في «جامعة ليون»، فرنسا، وتكتب في الأدب العربيّ في عدد من المجلّات الثقافيّة.